قال ابن القيم رحمه الله ..
الأقلام متفاوتة في الرتب؛ فأعلاها وأجلها قدراً: قلم القدرالسابق الذي كتب الله به مقادير الخلائق، كما في سنن أبي داود، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: « إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب قال : يا رب وما أكتب ؟ قال : أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ».
القلم الثاني: قلم الوحي وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله، وأصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم، والعالَم خدم لهم، وإليهم الحل والعقد، والأقلام كلها خدم لأقلامهم، وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام: فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي والسفلي.
والقلم الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله؛ وهو قلم الفقهاء والمفتين، وهذا القلم أيضا حاكم غير محكوم عليه، فإليه التحاكم في الدماء والأموال والفروج والحقوق، وأصحابه مخبرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده، وأصحابه حكام وملوك على أرباب الأقلام وأقلام العالم خدم لهذا القلم.
القلم الرابع: قلم طب الأبدان التي تحفظ بها صحتها الموجودة، وترد إليها صحتها المفقودة، وتدفع به عنها آفاتها وعوارضها المضادة لصحتها، وهذا القلم أنفع الأقلام بعد قلم طب الأديان، وحاجة الناس إلى أهله تلتحق بالضرورة.
القلم الخامس: التوقيع عن الملوك ونوابهموسياسة الملك، ولهذا كان أصحابه أعز أصحاب الأقلام، والمشاركون للملوك في تدبير الدول، فإن صلحت أقلامهم صلحت المملكة، وإن فسدت أقلامهم فسدت المملكة، وهم وسائط بين الملوك ورعاياهم.
القلم السادس: قلم الحساب وهو القلم الذي تضبط به الأموال مستخرجها ومصروفها ومقاديرها، وهو قلم الأرزاق وهو قلم الكم المتصل والمنفصل؛ الذي تضبط به المقادير وما بينها من التفاوت والتناسب، ومبناه على الصدق والعدل، فإذا كذب هذا القلم وظلم فسد أمر المملكة.
القلم السابع: قلم الحكم الذي تثبت به الحقوق، وتنفذ به القضايا، وتراق به الدماء، وتؤخذ به الأموال والحقوق من اليد العادية فترد إلى اليد المحقة، ويثبت به الإنسان وتنقطع به الخصومات، وبين هذا القلم وقلم التوقيع عن الله عموم وخصوص فهذا له النفوذ واللزوم وذاك له العموم والشمول، وهو قلم قائم بالصدق فيما يثبته، وبالعدل فيما يمضيه وينفذه.
القلم الثامن: قلم الشهادة وهو القلم الذي تحفظ به الحقوق، وتصان عن الإضاعة، وتحول بين الفاجر وإنكاره، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويشهد للمحق بحقه، وعلى المبطل بباطله، وهو الأمين على الدماء والفروج والأموال والأنساب والحقوق، ومتى خان هذا القلم فسد العالم أعظم فساد، وباستقامته يستقيم أمر العالم، ومبناه على العلم وعدم الكتمان.
القلم التاسع: قلم التعبير وهو كاتب وحي المنام وتفسيره وتعبيره وما أريد منه، وهو قلم شريف جليل مترجم للوحي المنامي، كاشف له، وهو من الأقلام التي تصلح للدنيا والدين، وهو يعتمد طهارة صاحبه ونزاهته وأمانته، وتحريه للصدق والطرائق الحميدة والمناهج السديدة، مع علم راسخ، وصفاء باطن، وحسن مؤيد بالنور الإلهي، ومعرفة بأحوال الخلق وهيئاتهم وسيرهم، وهو من ألطف الأقلام وأعمها جولانا، وأوسعها تصرفا، وأشدها تشبثا بسائر الموجودات: علويها وسفليها وبالماضي والحال والمستقبل فتصرف هذا القلم في المنام هو محل ولايته وكرسي مملكته وسلطانه.
القلم العاشر: قلم تواريخ العالم ووقائعه وهو القلم الذي تضبط به الحوادث، وتنقل من أمة إلى أمة، ومن قرن إلى قرن، فيحصر ما مضى من العالم وحوادثه في الخيال، وينقشه في النفس حتى كأن السامع يرى ذلك ويشهده، فهو قلم المعاد الروحاني، وهذا القلم قلم العجائب؛ فإنه يعيد لك العالم في صورة الخيال فتراه بقلبك وتشاهد ببصيرتك.
القلم الحادي عشر: قلم اللغة وتفاصيلها من شرح المعاني ألفاظها، ونحوها وتصريفها، وأسرار تراكيبها، وما يتبع ذلك من أحوالها ووجوهها وأنواع دلالتها على المعاني وكيفية الدلالة، وهو قلم التعبير عن المعاني باختيار أحسن الألفاظ وأعذبها وأسهلها وأوضحها، وهذا القلم واسع التصرف جدا بحسب سعة الألفاظ وكثرة مجاريها وتنوعها.
القلم الثاني عشر: القلم الجامع وهو قلم الرد على المبطلين، ورفع سنة المحقين، وكشف أباطيل المبطلين، على اختلاف أنواعها وأجناسها، وبيان تناقضهم وتهافتهم، وخروجهم عن الحق، ودخولهم في الباطل، وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام، وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل، المحاربون لأعدائهم، وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال، وأصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل، وعدو لكل مخالف للرسل، فهم في شأن وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن.