توكلت على الحي الذي لا يموت
بسم الله الرحمن الرحيم
البند الاول :
شمائله (صفاته الخُلًقية) و وصفه (صفاته الخَلقية) عليه الصلاة والسلاممنح الله سبحانه نبيّنا صلى الله عليه وسلم من كمالات الدنيا والآخرة ما لم يمنحه غيره ممّن قبله أو بعده، من خصال الجلال والكمال في البشر والتي هي نوعان:
ضروري دنيوي:اقتضته الجِبلَّة ليس للمرء فيه اختيار ولا اكتساب مثل ما كان في جبلَّته عليه الصلاة والسلام من كمال الخِلْقة، وجمال الصورة، وقوة العقل، وصحة الفهم، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس، والأعضاء، واعتدال الحركات، وشرف النسب، وعزّة القوم، وكرم الأرض، ويلحق به ما تدعو ضرورة الحياة إليه من الغذاء والنوم والملبس والمسكن والمال والجاه.، وضرورة الحياة.
مكتسبٌ ديني آخروي:وهو ما يُحمد فاعله ويُقَرِّبُ إلى الله زلفى من سائر الأخلاق العليّة والآداب الشرعية من الدين، والعلم، والحِلم، والصبر، والشكر، والعدل، والزهد، والتواضع، والعفو، والعفّة، والجود، والشجاعة، والحياء، والمروءة، والصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحُسن الأدب، والمعاشرة، وأخواتها وهي التي يجمعها حُسن الخُلق..
أولاً : شمائله (صفاته الخُلًقية) عليه الصلاة والسلامنظافة جسمه وطيب ريحه وعرَقه:خصَّه الله تعالى في ذلك بخصائص لم توجد في غيره، ثم تممها بنظافة الشرع. قال عليه الصلاة والسلام:
"
بُنِي الدين على النظافة"
وقال أنس: ما شَممت عنبراً قط، ولا مسكاً، ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن جابربن سمرة، أنه عليه الصلاة والسلام مسح خَدَّه، قال: "فوجدت ليده بَرداً وريحاً كأنما أخرجها من جُؤنة عطار". قال غيره: مَسَّها بطيب أو لم يمسَّها. يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، يضع يده على رأس الصبي، فيُعرف من بين الصِّبيان بريحها، وروى البخاري في تاريخه الكبير عن جابر:
"لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمرّ في طريق فيتبعه أحد إلا عُرِف أنه سلكه من طيبه".
وفُور عقلهِ صلى الله عليه وسلم، وذكاء لُبِّه:كان أعقل الناس وأذكاهم، مع عجيب شمائله وبديع سِيَره فضلاً عمّا أفاده من العلم، وقرّره من الشرع، دون تعلّم سابق، ولا ممارسة تقدَّمتْ، ولا مطالعة للكتب منه، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام في الصلاة يرى من خلفه كما يرى من أمامه، وبذلك فُسِّر قوله تعالى:
{
وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ(219)}
وقالت أمنا عائشة:
"كان عليه السلام يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، وكان يعد في الثريا أحد عشر نجماً".
فصاحةُ لسان، وبلاغة قوله صلى الله عليه وسلّم :كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحلِّ الأفضل، والموضع الذي لا يُجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلف، أُوتي جوامِع الكَلِم، وخُصَّ ببدائعِ الحكم، وعُلِّم ألسنةَ العرب، فكان يُخاطِب كل أمةٍ منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويُباريها في منزع بلاغتها، وليس كلامه مع قريش ككلامه مع أقيال حضرموت، وملوك اليمن، وعظماء نجد. بل يستعمل لكل قبيلة ما استحسنته من الألفاظ، وما انتهجته من طرق البلاغة ليُبَيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، وليحدِّث الناس بما يعلمون.
كلامه المعتاد، وفصاحته المعلومة، وحكمه المأثورة صلّى الله عليه وسلم :ألَّفَ النَّاسُ فيها الدواوين، وجُمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب، ومنها ما لا يُوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة، كقوله:
"
الناس كأسنان المشط"،و
"
لا خير في صُحبة مَنْ لا يرى لك ما ترى له"، و
"
الناس معادن"، و
"
المستَشَار مؤتمن"، و
"
رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم". وقوله:
"
أسلِم تَسلم، وأسلم يُؤتِك الله أجرك مرتين"، و
"
إن أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسِنُكُم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يَألفون ويُؤلفون"، وقوله:
"
ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً". ونهيه عن
"
قيل وقال، وكثرة السُّؤال، وإضاعة المال، ومَنْعٍ وهاتِ، وعقوق الأمهات، ووأد البنات"، وقوله:
"
اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بِخُلق حسن"، و
"خير الأمور أوساطها". وقوله:
"
أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما"، وقوله:
"
الظلم ظلمات يوم القيامة". وقوله في بعض دعائه:
"
اللهمّ إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلمّ بها شَعْثي، وتُصلح بها غائبي، وتُزكي بها عملي، وتُلهمني بها رُشدي، وتردّ بها أُلْفَتي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهمّ إني أسألك الفوز في القضاء، ونُزُل الشهداء، وعيشَ السعداء، والنصر على الأعداء"
إلى غير ذلك مما رَوَتهُ الكافّة عن الكافّة عن مقاماته، ومحاضراته، وخطبه، وأدعيته، ومخاطباته، وعهوده، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يُقاس بها غيره، وحاز فيها سَبْقاً لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ. وقد قال أصحابه: ما رأينا الذي هو أفصح منك، فقال:
"
وما يمنعني؟ وإنما أُنْزل القرآن بلساني، لسانٍ عربي مُبين".
وقال مرة أخرى:
"
أنا أفصح العرب بيدَ أني من قريش، ونشأت في بني سعد".
فجمع له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإِلهي الذي مددُهُ الوحي الذي لا يُحيط بعلمه بشر.
علو نسبه، وكرم بلده، ومنشئه، صلّى الله عليه وسلم :إنه نخبة بني هاشم، وسلالة قريش وصميمها، وأشرف العرب، وأعزّهم نفراً من قبل أبيه وأمه، ومن أهل مكة، أكرم بلاد الله على الله وعلى عباده.وسنسرد كل ذلك إن شاء الله في البندود التالية.
سلوكه صلّى الله عليه وسلم فيما تدعوا إليه ضرورة الحياة :منه ما الفضل في قلته:
كالأكل والنوم بالأقل، وحضَّ عليه قال صلى الله عليه وسلم:
"
ما ملأَ ابنُ آدمَ وعاءً شَرّاً من بطنهِ، حسبُ ابن آدمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كان لا محالةَ، فَثُلُثٌ لطعامهِ، وثلثٌ لشرابهِ، وثلثٌ لِنَفَسِهِ".
وقالت عائشة رضي الله عنها: "لم يمتلىء جوف النبي صلى الله عليه وسلم شبعاً قطّ، وإنه كان في أهله لا يسألهم طعاماً ولا يتشهَّاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قَبلَ، وما سقوه شرب". وفي صحيح الحديث:
"
أما أنا فلا آكل متكئاً"
والاتِّكَاء: هو التَّمكنُ للأكل والجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل ويستكثر منه، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما كان جلوسه للأكل جلوس المستوفِزِ مُقْعِياً، ويقول:
"
إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبدُ"، وكذلك نومه كان قليلاً، ومع ذلك فقد قال:
"
إِنَّ عَيْنَيَّ تنامانِ ولا ينامُ قلبي".
ومنه ما الفضل في كثرته:
كالجاه، وهو محمودٌ عند العقلاء عادة، وبقَدْرِ جاهه عِظَمُهُ في القلوب، وقد قال تعالى في صفة عيسى عليه السلام: {
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ} (آل عمران: 45).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رُزِق من الحشمة، والمكانة في القلوب، والعظمة قبل النبوّة عند الجاهلية وبعدها، وهم يكذبونه ويؤذون أصحابه، ويقصدون أذاه في نفسه خفية، حتى إذا واجههم أعظموا أمره وقضوا حاجته. وفي حديث أبي مسعود، أن رجلاً قام بين يديه فأُرْعِدَ، فقال له عليه الصلاة والسلام:
"
هوِّن عليك فإني لست بملك".
ومنه ما تختلف الأحوال فيه :
ككثرة المال، فصاحبه على الجملة معظَّم عند العامّة لاعتقادها تَوَصُّلَهُ به إلى حاجته، وإلا وليس فضيلة في نفسه، فمتى كان بهذه الصورة، وصاحبه مُنفقاً له في مهماته ، يصرفه في مواضعه، كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا. وإذا صرفه في وجوه البرّ، وأنفقه في سبل الخير، وقَصد بذلك الله تعالى والدار الآخرة، كان فضيلة عند الكل بكل حال، ومتى كان صاحبه مُمْسكاً له، غير موجهه وجوهه، حريصاً على جمعه، َكان مَنْقَصَة في صاحبه، يوقعه في وَهْدة رذيلة البخل، ومذمّة النذالة، فالتمدح بالمال ليس لذاته بل للتوصّل به إلى غيره، وتصريفه في مُتَصَرَّفاته، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم أُوتي خزائن الأرض، ومفاتيح البلاد، وأُحِلَّت له الغنائم، وفتح عليه في حياته بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجُلب إليه كثير من أخماسها وَجِزْيَتِها وصدقاتها، وهاداه جماعة من ملوك الأقاليم، فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهماً بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين، وقال:
"
ما يسرني أن لي أُحُداً ذهباً يبيت عندي منه دينار إلا ديناراً أرصده لِدَيْني".
وأتته دنانير مرة فقسَّمها، وبقيت منها بقية فدفعها لبعض نسائه، فلم يأخذه نوم حتى قام فقسمها، وقال:
"
الآن استرحت".
ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله، واقتصر في نفقته وملبسه ومسكنه على ما تدعو ضرورته إليه، وزهد فيما سواه، فكان يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشَّمْلَة، والكساء الخشن، والبُرْد الغليظ، ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوصة بالذهب، ويرفعُ لمن لم يحضر، فأنت ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاز فضيلة المال بالزهد فيه، وإنفاقه على مستحقيه.
يتبع... انتظروني